سورة الأنفال - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله}، كما أمركم، {يجعل لكم فرقاناً}؛ نوراً في قلوبكم، تُفرقون به بين الحق والباطل، والحسن والقبيح. قال ابن جزي: وذلك دليل على أن التقوى تُنور القلب، وتشرح الصدر، وتزيد في العلم والمعرفة. اهـ. أو: نصراً يُفرق بين المحق والمبطل؛ بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين، أو مخرجاً من الشبهات، أو نجاة مما تحذرون في الدارين من المكروهات، أو ظهوراً يشهر أمركم ويثبت صِيتَكم، من قولهم: فرقان الصبح، أي نوره، {ويُكفِّر عنكم سيئاتكم} أي: يسترها، فلا يفضحكم يوم القيامة، {ويغفرْ لكم}؛ يتجاوز عن مساوئكم، أو يكفر صغائركم ويغفر كبائركم، أو يكفر ما تقدم ويغفر ما تأخر، {والله ذوالفضل العظيم}، ففضله أعظم من كل ذنب، وفيه تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان، لا أن تقواهم أو جبت ذلك عليه، كالسيد إذا ما وعده عبده أن يعطيه شيئاً في مقابلة عمل امره به، مع أنه واجب عليه لا محيد له عند. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الفرقان الذي يلقيه الله في قلوب المتقين من المتوجهين هو نور الواردات الإلهية، التي ترد على القلوب من حضرة الغيوب، وهي ثلاثة أقسام: وارد الانتباه: وهو نور يفرق به بين الغفلة واليقظة، وبين البطالة والنهوض إلى الطاعة، فيترك غفلته وهواه، وينهض إلى مولاه، ووارد الإقبال: وهو نور يفرق به بين الوقوف مع ظلمة الحجاب وبين السير إلى شهود الأحباب، ووارد الوصال: وهو نور يفرق به بين ظلمة الأكوان، ونور الشهود، أو بين ظلمة سحاب الأثر وشهود شمس العرفان.
وإلى هذه الواردات الثلاثة أشار في الحكم بقوله: «إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه وارداً، أورد عليك الوارد ليسلمك من يد الأغيار، ويحررك من رق الآثار، أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك».


يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر، يا محمد، نعمة الله عليك بحفظه ورعايته لك {إذ يمكُر بك الذين كفروا} من قريش، حين اجتمعوا في دار الندوة {ليُثْبِتُوكَ} أي: يحبسوك في الوثاق والسجن {أو يقتلوك} بسيوفهم، {أو يخرجوك} من مكة.
وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، خافوا على أنفسهم، واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، وقال: أنا من نجد، سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً، فقال أبو البحتري: أرى أن تحبسوه في بيت، وتسدوا منافذه، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه فيها، حتى يموت، فقال الشيخ: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه، ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو: أرى أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم، فلا يضركم ما صنع، فقال الشيخ: بئس الرأي، يُفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً، وتعطوه سيفاً، فتضربوه ضربة واحدة، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإن طلبوا العَقَلَ عقلناه. فقال الشيخ: صدق هذا الفتى، فتفرقوا على رأيه، فأتى جبريلُ النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، وأمره بالهجرة فبيت عليّاً رضي الله عنه على مضجعه، وخرج مع أبي بكر إلى الغار، ثم سافر مهاجراً إلى المدينة.
قال تعالى: {ويمكرون ويمكر اللَّهُ}؛ برد مكرهم عليهم، أو مجازاتهم عليه، أو بمعاملة الماكرين معهم، بأن أخرجهم إلى بدر، وقلل المسلمين في أعينهم، حتى تجرأوا على قتالهم، فقُتِلوا وأُسِروا، {والله خيرُ الماكرين}؛ إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره، وإسناد أمثال هذا مما يحسن للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء؛ لما فيه من إيهام الذم. قاله البيضاوي.
الإشارة: وإذ يمكر بك أيها القلب الذين كفروا، وهم القواطع من العلائق والحظوظ والشهوات، ليحبسوك في سجن الأكوان، مسجوناً بمحيطاتك، محصوراً في هيكل ذاتك، أو يقتلوك بالغفلة والجهل وتوارد الخواطر والأوهام، أو يُخرجوك من حضرة ربك إلى شهود نفسك، أو من صحبة العارفين إلى مخالطة الغافلين، أو من حصن طاعته إلى محل الهلاك من موطن معصيته، أو من دائرة الإسلام إلى الزيغ والإلحاد، عائذاً بالله من المحن، والله خير الماكرين، فيرد كيد الماكرين، وينصر أولياءه المتوجهين والواصلين، وبالله التوفيق.


قلت: {إذا}: ظرفية شرطية، خافضة لشرطها، معمولة لجوابها، أي قالوا وقت تلاوة الآيات: لو نشاء... لخ.
يقول الحق جل جلاله: {وإذا تُتلى عليهم آياتنا} القرآنية {قالوا قد سمعنا} ما تتلوه علينا {لو نشاء لقلنا مثل هذا إنْ هذا إلا أساطير الأولين} أي: اخبارهم المسطورة أو أكاذيبهم المختلقة. قال البيضاوي؛ وهذا قول النَّضْر بن الحارث، وإسناده إلى الجمع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم، فإنه كان قاصهم، أي: يقص عليهم أخبار فارس والروم، فإذا سمع القرآن يقص أخبار الأنبياء قال: لو شئت لقلتُ مثل هذا، أو قول الذين ائتمروا في شأنه: وهذا غاية مكائدهم، وفرط عنادهم، إذ لو استطاعوا ذلك لسارعوا إليه، فما منعهم أن يشاؤوا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين، ثم قارعهم بالسيف، فلم يعارضوا، مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلَبوا، خصوصاً في باب البيان؟ اهـ. بالمعنى.
الإشارة: هذه المقالة بقيت سُنَّةً في أهل الإنكار على أهل الخصوصية، إذا سمعوا منهم علوماً لدنية، أو أسراراً ربانية، أو حِكماً قدسية، قالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا، وهم لا يقدرون على كلمة واحدة من تلك الأسرار، وهذا الغالب على المعاصرين لأهل الخصوصية، دون من تأخر عنهم، فإنهم مغرورون عنده {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحوِيلا} [فاطر: 43].

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9